طباعة

هل يُمكن لعلماء تغذية الحيوان أن يلعبوا دوراً محوريّاً في مجابهة الأمراض الوبائيّة المستحدثة مثل كوفيد-١٩؟

د. علي الغنـــــدور

قدْ يبدو العنوان صادماً، وعبثياًّ، وقد يكون كذلك بالفعل. فالمعضلة تتعلق ببني البشر، ولا علاقة لها، وبائياً، من قريبٍ أو بعيدٍ بعالم الحيوان. غير أنَّ هزلية المشهد، وعبثية القراءات والتحليلات الصّادرة من علماء فعليين ومتخصصين في علوم الأمراض والأوبئة والفيروسات البشرية، وآخرين إفتراضيّين درسوا في دكاكين الحلاقة، و تحت أقبية المقاهي، من العالم الموازي لمواقع التّواصل الإجتماعيي. فضلاً عن ذلك التّضارب والتّناقض بين كبريات المعاهد العلميّة العالميّة المتخصّصة، حتى في أبْسط الأساسيات المتعلّقة بعلم الفيروسات بشكل عام، و كوفيد-١٩ بشكل خاص، ترفع عن غير المتخصّصين من أمثالي حرجاً كان منطقيّاً، وصمتاً كان واجباً في حضرةٍ (افتراضية) لذوي التّخصّص، و تدفعني دفعاً للدّخول في نوبة، لامنطقية، من التّفكير المستمرّ، في معرض البحث عن حلّ.


عبثاً، حاولتُ إيجاد إجابةٍ كافيةٍ شافيةٍ، لسؤال لطالما عصف بذهني كلما أطلَّ علينا، موسمٌ جديدٌ من المواسم الوبائيةِ، على كثرتها، بدءاً بانفلونزا الطّيور، ومروراً بانفلونزا الخنازير، و انتهاءاً بالمستحدث الأخير. فهل الفيروسات هي التي أصبحت أشدَّ ضراوةً، أم إنّ مناعة بني البشر هي التي أضحت أكثر وهناً؟ أم كلاهما معاً. وأيَّاً ما كانت الإجابة، فإنّ الأزمة الرّاهنة، قد أثبتت، بما لا يدعُ مجالاً للشك، أنّ حلول التّكنولوجيا الحيوية، على أهمّيتها وحتميّتها، بطيئة وذات كلْفةٍ بشرية أليمة، واقتصاديّة باهظة. فمئات الآلاف من البشر قد قضوْا نحبهم، وأكثر من ثلاثين ألف مليار دولار هي حصيلة الخسائر حتى الآن. ولا يعلم إلّا اللهُ وحده، هل هناك أصفارٌ أخرى ستضاف على يمين تلك المجموعات الرّقمية لإحصاءات الخسائر النّاجمة عن الوباء، أم أنّه سيكتفي بذلك القدر، على وعدٍ بأن نلتقي مرةً أخرى.
لا شيء أصبح أكثر إثارةً، من تواتر الأنباء بين الحين والآخر عن لقاحٍ جديدٍ، وعن شركة هنا أو هناك قد أثبتت أبحاثها-هي-، والتي (سُلِقتْ) حتماً على عجلٍ، نجاعة لُقاحها المصنَّع حديثاً، أو حتى المُسْتخدم قديماً، من دون ضمانةٍ واحدة، ألّاَّ تكون آثاره الجانبية أكثرَ فتكاً، على المدى البعيد، من الوباءِ ذاته. وعلى أيَّة حال، فإنَّها كلّها تقع تحت عنوان كبير، هو الإحتمال الغير مؤكّد. وإلى أن يتقاسم سماسرة الشعوب، وتُجّار الدواء، توافقيّاً كان، أم تنافسياً، كعكة الّلقاح الجديد، لا أحد يعرف كم من البشر عليهم أن يفنوا حتى يكون ذلك اللّقاح متاحاً. ولا أحد يدري هل سيراوغ ذلك المخلوق المجهري في القريب العاجل ويهبُّ علينا بموجة ثانية أم لا. ولا أحد يستطيع أن يؤكّد أنّنا ساعتها لن نكون في حاجة إلى لقاح جديد، و أنّنَا علينا أن ندور ثانية كثورٍ مغلَّق العينين مشدودٌ لساقية في صحراء جدباء لا زرع فيها ولا ماء.
لا شكّ أنّ ما جرى، وما يجري، يدفعنا إلى ضرورة الإنتباه إلى مدى أهمّية مناعة الجسم البشري. فأيَّاً ما كان ذلك المستحدث الجديد، هو طبيعيٌّ انتقل بسبب عادات غذائيّة خاطئة، أو أنَّه قد تمّ هندسته بفعل فاعل، فإنّ مناعة الجسم البشري يجب أن تكون دوماً، في أوجّ قوّتها، ولديها جاهزية لا يعوزها عناصرٌ غذائية، أو تزهقها عادات استهلاكيةٍ خاطئة. إنَّ مناعة الجسم البشري وحدها هي الضّمانة الأكيدة، لكيلا يواجه العالم ثانيةً الكابوس ذاته، ولا يعيش المأساة نفسها مرّة أخرى.
لا ريب أنّ تكنولوجيا الأغذية، بمعلّباتها وموادها الحافظة، ومصنعاتها، وإضافاتها المخلَّقة كيميائيّاً قد أصابت مناعة الجسد البشري في مقتل، فضلاً عن نمط حياةٍ سريع اقتضى توافر مصنَّعات أكثر قابلية للتلوث بفطريات تفرز سموماً، على الجسم أن يتخلّص منها، منتجاً شوارد حرّة تهاجم بضراوة مناعة الإنسان، وأجهزته المعنيّة. إنّ هناك مئات العادات الغذائيّة الخاطئة، أبسطها الميل إلى تخزين المواد الغذائيّة مبرّدةً أو مثلّجةً، واستخدامها في صورة غير طازجة، استسلاماً لنمط حياة أصبح أكثر جنوناً، و مفعماً بالحركة المستمرّة، لا يجد الإنسان فيه وقتاً لالتقاط الأنفاس، فضلاً عن تدَبُّر طعامه ليستبين ما هو صحيِّ، و ما هو ضار.
إنّ أمراً جلالاً حدث ويحدثُ وسوف يحدث، يضعُ علماء التّغذية عموماً، أمام مسؤولية كبيرة في إنقاذ البشرية، فعليهم أن يتقدّموا الصّفوف دونما تردّد، وعليهم أن يتولّوا المهمّة دونما تباطؤ. فمهمّة نشر الوعي الغذائي، وجعل الأغذية المعزِّزة للمناعة، ثقافة متداولة، وعادات متَّبعة، هي ليست بالأمر اليسير، لا سيّما بين شعوب العالم الثالث، التي لديها مرادفاً واحداً لمفهوم التّغذية، هو شهوة الطّعام ولذّة التهامه، بين الطّبقة العليا فيه، أو امتلاءِ البطن والشّبع بين أبناء الطّبقات الدنيا منه، وفي غياب تام لمفهوم التّغذية الصّحية.
إنّ على علماء تغذية الحيوان أن يخرجوا من ذلك الممرّ الضّيق الذي، لطالما، حبسوا أنفسهم فيه، بتوفير منتوجات بمواصفات غذائيّة تلبّي رغبات المستهلك، إلى أرض أرحب ومدى أوسع، بتوجيه الحيوان نحو إنتاج أغذية توفّر للإنسان متطلّباته من مفردات المناعة القويّة، تسهم إسهاماً في بناء جسده بشكلٍ أكثر عنفواناً، وأقوى صموداً، في مواجهة موجات متلاحقةٍ من حملاتٍ شرسة لمخلوقات مجهريّة، قد عرّت الجسد الإنسانيِّ تماماً، و أزالت أطنان المساحيق الكذوبة التي طالما أخفى الإنسان الحديث بها، وجهه الحقيقي، ومدى ضآلة وزنه، وهشاشة عظمه.
إنَّ علوم تغذية الحيوان قدْ شهدت في العقدين الأخيرين طفرةً نوعيّة، و يكفي أن ننَّوه هنا، أنَّها استطاعت أن تساير، وربما تسبق، هوساً مرعباً، و سباقاً مجنوناً، بما يعرف بالتّحسين الجيني أو الوراثي، و تضخيم المكمون الوراثي، لسلالات الحيوان المنتجة، والتي تضاعفت قدرتها الوراثيّة عدّة مرّات في فترة زمنيّة تبدو قصيرة. وكما استطاع علماء تغذية الحيوان ببراعة، توفير منتوجات غذائيّة ذات مواصفاتٍ تنسجمُ والإحتياجات الصّحية لفئات معيّنة من بني البشر، من مثل إنتاج بيض صحّي خالي من الكوليسترول، ولبن منزوع اللّاكتوز، فضلاً عن مواصفات ذبيحة تتوافق وذوق المستهلك. فإنّ لديهم، دونما ريبٍ أو شكّ، القدرة على انتاج أغذية من أصلٍ حيواني عالية في محتواها من العناصر الغذائيّة المعزّزة للجهاز المناعي للمستهلك الإنسان.
إنّني وكمتخّصص، اكتسبت قدراً، ولو بسيطاً، من الخبرة الحقلية في مجال التّغذية التّطبيقية للأملاح المعدنيّة النّادرة والفيتامينات، أدرك جيداً، أنّ التّغذية يمكنها أن تكسب المواد الغذائية مواصفات من حيث المحتوى من تلك العناصر الغذائيّة الهامّة والمعروفة بدورها كمرافقات أنزيمية تعزّز الجهاز المناعي، وتجعل منه سدّاً منيعاً عصي على الاختراق، أو الهزيمة. فالمنتوجات الحيوانية تكتسب مواصفاتها، في الأغلب الأعمّ، من الغذاء الذي تتناوله، بجانب خريطتها الجينية بطبيعة الحال. وقد يرى البعض أنّه من الأسهل تناول تلك العناصر كمكملات غذائية، كما هو شائع الآن، بتناول فيتامينات، وأملاح معدنيّة نادرة، هي العنصر الأهمّ، والثابت علميّاً، من بين فوضة لبروتوكولات التّشافي من كوفيد المستحدث. لكن الأمر، حال تناولها من خلال الغذاء، لفترة طويلة، يبني خطاً دفاعيّاً، أكثر صلابةً، فضلاً عن أن تكون جرعات علاجية مؤقّتة، يعافُّها الإنسان إذا ما طالت مدتّها. كما أنّها من خلال الغذاء، أقلّ كلفةً بكثير، وأكثر إتاحيّة، وأعلى إستفادةً، فيما يعرف بميزة الإتاحيّة الحيويّة للمواد العضويّة. فضلاً عن أنَّ الحيوان المسيَّر إلاهياً، لا يمكنه أن يغُشنا، أو يمنحنا عناصر معدنيّةٍ مثلاً بمنتوجاته، من مصادر (مضروبة)، كما هو شائع بين منتجي الدواء ومكمّلاته.
وفي ذات السياق، فإنّني أرى أنّه قد آن الأوان أن نسأل بإلحاحٍ الشّركات الفاعلة في مجال الزّراعة عامةً، والإنتاج الحيواني بصفة خاصّة، محلّيّاً، وعالميّاً، أن تطلب من مديريها من ذوي الخلفيّات الماليّة أن يتراجعوا قليلاً، خطوةً أو خطوتين إلى الخلف، مُفسِحين المجال لمديرين فنيين لديهم مهنيّة ورؤى ليست أسيرة هوس تحقيق (المزيد) من الأرباح، مهما كانت التّوابع من إنتاج منتوجات مدمّرة لمناعة بني البشر. ولا أكون مبالغاً، إن قلت أنّه إذا ظلّ العالم الزّراعي على ما هو عليه من سطوة العقليّات الحسابية الماليّة الجامدة، الخالية من أي مشاعر مهنية، ومن أي شعور أخلاقيِّ، على مقدرات شركاته الكبرى، مع استسلامٍ وتراجع خبرائه وعلمائه الإلتزام المقاعد الخلفيّة في قاطرات التّنمية البشريّة، فيما يخصّ الغذاء، فإنّهم، أي القادة من ذوي الخلفيّات غير الفنّية، سيلعبون دوراً أساسياً في اقتياد العالم بسرعة جنونيّة نحو مصيره المحتوم و الهلاك.
وأخيراً، وانطلاقاً من هذا التّقديم الطّويل نسبيّاً، آمل أن أكون قدْ أحدثت ثقباً، ولو بسيطاً في نهاية نفق مظلم، علّ شعاع ضوءٍ ولو هزيل، يمنحنا أملاً ولو ضئيلاً، في إيجاد حلٍ وقائي دفاعي في مواجهة هجمات تلك المخلوقات المجهرية الأكثر ضراوةً. كما آمل أن أتمكن في مرّاتٍ قادمة، من طرح مزيدٍ من التفاصيل العلميّة في الإطار ذاته، كمتخصّص في التّغذية التطبيقية للأملاح المعدنيّة النادرة والفيتامينات.